إشراقة

 

لابأس أن تكون البداية متواضعةً

 

 

 

الناجحون كلُّهم عَانَوْا في بداياتهم الأولى، ومُعْظَمُهم بَدَأُو بدايةً متواضعةً؛ ولكن صبرهم ومثابرتهم جعلاهم ينجحون ويرتقون للمكانة السامية التي طمحوا لها، وربما وصلوا إلى ما لم يكن بحسبانهم. إن مفتاح النجاح هو العمل الدؤوب المُخَطَّط والاجتهاد المستطاع في صبر وثبات مع التوكل على الله وتفويض الأمر إليه وإحسان الظن به، والثقة بنصره، والإيمان بأنّه لا يُضِيع أجرَ العاملين وإحسانَ المحسنين.

     في كل مجال من مجالات الحياة ترى الناجحين وترى الفاشلين، فلو قارنتَ بين الفئتين وجدتَ الناجحين قد صبروا، ولم ينزعجوا، ولم يُبَالُوا بالتعب والمعاناة والسهر ومواصلة الليل بالنهار مع الاجتهاد الذي اقتضاه منهم عملُهم الذي مارسوه. بينما وجدتَ الفاشلين أنهم مَشَوْا خُطُوَات بطيئة، وسرعان ما رجعوا من الطريق، وانصرفوا عن العمل؛ لأنهم فقدوا رصيد الصبر والاحتمال ولم يقدروا أن يواجهوا في مثابرة عضّةَ المعاناة المريرة التي يتعرّض لها المرأ حتمًا في طريق الحياة في أي جهة سار.

     ومُعْظَمُ الناجحين تكون بداياتُهم متواضعةً؛ ولكن عزيمتهم تقهر لهم العقبات، وتُسَخِّر لهم الوسائل، وتُوَفِّر لهم ما يُمَهِّد الطريقَ إلى النجاح الباهر المغبوط. كثيرٌ من رجال العلم والأعمال والمال والصناعة والتجارة سمعنا قصصهم على الألسنة أو قرأنا في الكتب، فوجدنا أن بداياتهم كانت مُثَبِّطَةً جدًّا؛ ولكن حالفهم التوفيق، وقارنهم الصبر، وساعدهم الاجتهاد المتصل؛ فصنعوا ما شَكَّلَ «الكرامة».

     وقد وَرَدَ في الحديث: «أن النصر مع الصبر، وأن الفرح مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» فالنصر لايحظى به الإنسان إلاَّ بعد ما يكون قد تَسَلَّحَ بالصبر، وأعمله في درب الحياة، ودافع به غائلة اليأس والإحباط والكسل والقعود عن العمل، وحارب به كلَّ شيء يحول دون الوصول إلى الغاية التي تَوَخَّاها و وضعها نصب عينيه. وقد تَأَكَّدَ لدى الخبراء الذين حَلَبُوا الدهرَ أَشْطُرَه أن الاجتهاد الدائم والصبر القائم هما سلاحٌ أمضى يُسَهِّل على المرء أن يكسب به جميع معارك الحياة مهما كانت طاحنة ضروسًا.

     وكثيرًا ما سمعنا أن رجل الأعمال الكبير فلانًا الذي عمر مدينة صناعية بأكملها، وأقام بها عشرات من المصانع تُنْتِج مُنْتَجات متنوعة يتمّ تصريفُها في الأسواق في أرجاء البلاد كلها كما يتمّ تصديرها خارج البلاد إلى كثير من الدول كان يبيع الأشربة على عربة صغيرة متنقلة على أربع عَجل مثل عَجَل الدرّاجة العاديّة، كان يجرّها بيديه، ويبيع أشربته على الشوارع في أمكنة تجمّع المُتَسَوِّقِين، ويغتنم أمكنة قريبة من المدارس لدى بداية مواعيدها ونهايتها، وقريبة من دورالسينما، ومُفْتَرَقَات الطرق، وما إلى ذلك. وكان ينفق ما يَرْبَحه على نفسه وعياله، ويقتطع جزءًا منه لوقت الحاجة ولاستثماره في توسيع تجارته المتواضعة للغاية. وصبر على ذلك وداوم عليه، وحارب اليأسَ الذي كثيرًا ما حاول أن يَتَسَرَّبَ إلى قلبه، ولم يُغَالِط نفسَه بأحلام كبيرة ومطامع واسعة مُسْتَعْجَلَة على شاكلة كثير من الناس؛ بل ظلّ متاكدًا أن الفرج آتٍ لا مَحَالَة ما دام قائمًا على الاجتهاد؛ فبارك الله في عمله، ووَفَّى جزاءَ صبره وثباته بحيث عندما يحكي أحد ممن يعرف الأحوال بداياته المتواضعة لهذا الحدّ، ربّما يشكّ كثير من السامعين، ويظنون أنه قد اخترع أساطير ليرويها للناس للتسلية وإزجاء الوقت.

     كان بجوار بيتنا جارٌ له أولاد بعضهم من أترابنا، وبعضهم أصغر منّا سنًّا، كان بين أولاده الأصغر منا سنًّا، طفل مُغْرَم بالألعاب، تلوح على وجهه سيما اللامبالاة المتناهية، بسيط جدًّا، لا يعرف معنىً للجديّة في شأن من حقائق الحياة، كان يتعرض كثيرًا للزجر والتوبيخ والملام من والده عندما كبر ولم يتخذ مهنةً ولم يُؤَهِّل نفسه ثقافيًّا تأهيلاً يكفل له ولعائلته لقمةَ العيش. وذات يوم جَدَّ جدُّه وقصد مدينةً من المدن الرئيسة الأربع في الهند، وبدأ يمارس تجارة صغيرة كانت لا تُبَشِّر له بغد مشرق، وكان لا ينتبه لها الناس؛ ولكنه ظلّ يمارسها في صبر وقناعة ومثابرة، ولم يَدَعِ الضجرَ واليأسَ يجد ان سبيلاً إليه، فبدأت تجارته بعد سنوات طويلة تربح وتزدهر، حتى صار يملك عشرات من المحلات في المدينة يتجر فيها بكثير من السلع التجاريّة، وصار من أثرياء القرية ذوي الرقم الواحد، وثريًّا منقطع النظير بالنسبة إلى أن ثرواته كلها من كدّ يمينه وعرق جبينه ولم يرثها من أبويه وجدّه، مثل الأثرياء الآخرين. وتُرْوَى قصة نجاحه مثالاً لصبره واجتهاده ومثابرته في سبيل عمله وتجارته محتملاً كل الصعوبات التي استطاع أن يُذَلِّلَها على صخرة عزيمته التي لم تقدر عوادي الدهر أن يهزمها.

     فيما يتعلق بالتحصيل العلمي، نعرف يتيمًا بائسًا لاسندَ له سوى خال له كان بدوره مُقْتِرًا يعيش بأراض زراعية قليلة وما تُدِرُّ عليه بعضُ الحيوانات الحلوب من دخل، بما فيها جاموس كان قد أسند إلى ابن شقيقته اليتيم رعيَها وسرحَها وتعليفَها وكلَّ شيء يتعلق بها، فكان يقوم بأمرها عن نشاط وتيقظ وشعور زائد بالمسؤولية أَرْهَفَه كونُه يتيمًا لا ملجأ ولا مأوى له إلا إلى الخال أو الأم الأرملة المُعْدِمَة التي كانت لا تملك رصيدًا سوى نصر الله وعونه. ذات يوم أساء به الخالُ الظنَّ، حيث حَسِب أنه لا يُؤَدِّي مسؤوليّتَه نحو الحيوانات الحلوب والجاموس كما ينبغي، فلم يكتفِ بتناوله بملام شديد وزجر عنيف؛ بل انهال عليه يضربه ضربًا مُبَرِّحًا، جَعَلَه يُغَيِّر مسارَه في الحياة، ويتّخذ قرارًا صائبًا كان له مفتاحَ خير كثير له لا يُقَدَّر بثمن، فلاذ بمدرسة من تلك المدارس الأهلية الكثيرة التي تسير بتبرعات عامة الشعب المسلم في شبه القارة الهندية والتي ترابط حقًّا على الثغر الإسلامي فيها عن جدارة وأهلية. وتَدَرَّجَ في الدراسة، حتى تخرج عالمًا يشار إليه بالبنان في أكبرها قامةً وقيمةً وعراقةً، وصار أستاذًا فيها، فتخرج عليه مئات من العلماء الكبار ذوي القامات الفارعة، ظلّوا يحبّونه من أعماق قلوبهم؛ لكونه قد درّسهم عن حبّ وتفانٍ وأهلية فائقة، ومات فتفطرت قلوبهم، فصاروا ألسنةَ دعاء له ليلَ نهارَ، وكانوا ولايزالون صدقةً جاريةً له. وذلك لأن يتمه وبؤسه وشقاءه بموت والده وهو لم يَع ولم يَشْدُ، لم يقف حاجزًا دونه ودون صناعته لنفسه؛ بل صَبَرَ وعَزَمَ أن يطلع شمسًا مشرقة وقمرًا منيرًا بعد أن لم يكن إلاّ ذرَة تائهة في صحراء الحياة تهبّ بها الريح في مكان سحيق. ولولا صبره واجتهاده المنشود وإصراره على التغلب على المعوقات والمتاريس التي طالما حاولت مُلِحَّةً أن تقف في طريقه إلى صنع الذات وصقل الصّفات؛ لما كان ما كان.

     كما نعرف يتيمًا انحسر ظلُّ أبيه عن رأسه وهو رضيعُ ثلاثةِ شهور في حضن أمه، ولم يترك أبوه له مالاً ولا عقارًا ولا مصدر رزق آخر. رَبَّتْه أمه في معاناة مريرة، وكانت الأوضاع مُحْبِطَة، والظروف حوله غير مواتية له، والملابسات غير مُشَجِّعَة، والقرائن كلها تقول: إنه يضيع سدى، ولا يُتَاح له أن يُؤَهِّل نفسَه ليُؤَدِّي دورًا نحو نفسه وأمه الحنون، ويعيش عزيزًا، ويموت بعد أداء دوره في الحياة تاركاً وراءه ذكرًا حسنًا.

     ولكنه حالفه التوفيقُ الذي لا يخطئ أبدًا مرماه فتَخَطَّى كلَّ الحواجز والعوائق وحَطَّمَ أغلال الظروف القاسية، واجتاز جميع المراحل التعليمية بعد ما التحق بكُتَّاب قريته إلى المدرسة فإلى الكلية فإلى الجامعة بامتياز ضَمِنَ له الصيتَ المطبقَ بين أقرانه وأترابه وغيرهم من الغلمان الذين كانوا في نحو عمره في القرية والقرى حولها في المنطقة الواسعة. وذلك باجتهاده المثالي، وصبره الفريد، وإصراره الغريب على الدراسة، الذي جَعَلَه أحبَّ زملائه في الدراسة إلى أساتذته في جميع مراحل التعليم؛ فكان مثالاً حيًّا شاخصًا، لشجرة مُخْضَرَّة، وارفة الظلال، مترامية الأغصان، كثيفة الأوراق، مثمرة في كل أوان، مُسْتَعْصِيَة على المناخ القاسي، وشحّ الماء، وقلة التعهّد بالسقي والتسميدِ وقلبِ الأرض حولها وإزالةِ الحشائش الشيطانية النابتة بجنبها.

     إنه صار مثالاً جديرًا بالتقليد لمن يودّ أن يصنع ذاتَه، ويُؤَهِّلها للدين والدنيا، لله وللناس، فيحصد الحُسْنَيَيْن، ويجمع الأجرين، ويَتَأَبَّىٰ على الظروف أن تُملِيَ عليه إرادتَها، وتُرْغِمَه على الخضوع لإملاءاتها، فيتخلف عن الركب، ويضيع في صحراء الحياة، ويَحْيَىٰ دونما فائدة، ويموت دونما أثر يتركه وراءه.

     أجل قد يجوز أن تكون البداية لرجل متواضعة بشكل لافت ويعاني صاحبُها معاناةً مريرةً قاسيةً مُثَبِّطَةً؛ ولكن العبرة بالعاقبة التي يُسَجِّلها بصبره الجبّار، واجتهاده المضني، وطموحه الشامخ الذي تتضاءل دونه جميع العوائق والموانع. من حقق هدفًا كبيرًا بصبره واجتهاده في ظروف مناوئة، فهو الجدير بالذكر والتسجيل والمحاكاة، وهو اللافت لانتباه الناس كلهم، وهو المحرض بصنيعه غيره على أن يحذو حذوه دون مبالاة بما تصنع الظروف وتدعو إليه الأوضاع.

 

(تحريرًا في الساعة 11 من ضحى يوم الخميس: 5/جمادى الآخرة 1436هـ = 26/مارس 2015م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، شعبان 1436 هـ = مايو – يونيو 2015م ، العدد : 8 ، السنة : 39